بعد جدالات وروايات مرتبكة حد التناقض وتسريبات من مصادر متضاربة داخل إيران ومن خارجها، حول ملابسات حادثة طائرة الرئيس الإيراني، ما بين كون الحادثة ترتبط بـ”مؤامرة”، أو أنّ سقوط الطائرة حادث عرضي مرتبط بالظروف الجوية وتقنيات الطائرة، صدر تقرير عن القوات المسلحة الإيرانية تضمن نتائج التحقيق “الأوّلية” في ملابسات تحطم مروحية الرئيس الإيراني، وخلاصته أنّه بعد متابعة لمسارات الطائرة، استبعد مقاربات أيّ “مؤامرة” في حادثة تحطمها، وردّ أسباب الحادث إلى أنّها مرتبطة بالأحوال الجوية، فقد جاء في التقرير أنّه “قبل حوالي دقيقة ونصف من وقوع حادث المروحية، تواصل قائد المروحية التي تعرضت للحادث مع المروحيتين الأخريين من مجموعة الطيران، ولم يتم ملاحظة آثار طلقات نارية أو ما شابه ذلك على جسم طائرة الرئيس الراحل، وتواصل قائد طائرة الرئيس مع المروحيتين المرافقتين لها، وأنّ النيران اشتعلت في المروحية المحطمة بعد اصطدامها بمرتفع، ونظراً لتعقيدات في المنطقة والضباب وانخفاض درجة الحرارة امتدت عملية البحث طوال الليل، وفي صباح يوم الإثنين (الساعة 5 صباحاً) بمساعدة طائرات بدون طيار (إيرانية) تم تحديد الموقع الدقيق والعثور على حطام مروحية الرئيس الراحل، وختم التقرير أنّه “لم يتم ملاحظة أيّ حالات مشبوهة بمحادثات برج المراقبة مع طاقم الرحلة”.
تقرير القوات المسلحة الإيرانية، وعلى أهميته، يبقى تقريراً أوّليّاً من جهة، ويفترض صدور تقارير لاحقة لهذا التقرير، ربما تنقض ما ورد فيه أو تتفق معه كليّاً أو جزئيّاً، لا سيّما أنّ التقارير اللاحقة ستصدر عن لجان تابعة للحرس الثوري الإيراني والأجهزة الاستخبارية التابعة له، ويلاحظ أنّ تقرير القوات المسلحة ربما أراد إبعاد تهمة التقصير عن الجيش الإيراني، من خلال التأكيد على سلامة الاتصالات والمتابعة، ونجاح الوصول إلى موقع الطائرة المنكوبة عبر طائرة مسيّرة إيرانية، وهو ما يُعدّ ردّاً على أنّ طائرة تركية مسيّرة مزودة بمناظير رؤية ليلية هي التي تمكنت من تحديد مكان سقوط الطائرة والوصول إليها، بالإضافة إلى نفي ما يتردد حول تعرّض الطائرة لإطلاق نار، ولم يردّ التقرير على تسريبات أشارت إلى أنّ قنبلة من داخل الطائرة تفجرت بركّابها.
ومع أنّ فرضية أنّ سقوط الطائرة كان حادثاً عرضيّاً استناداً للأحوال الجوية ووعورة المنطقة يبدو منطقيّاً ويؤيده ما جاء في تقرير القوات المسلحة، إلا أنّ تساؤلات ما زالت قائمة تعزز مقاربة أنّ هناك مؤامرة “داخلية أو خارجية”؛ من بينها: انفصال المروحيتين المرافقتين لمروحية الرئيس وعدم تعرضهما للمصير نفسه، والوقت الذي استغرقه الوصول إلى حطام الطائرة، وأنّ الطائرة قدمت من أذربيجان، المرتبطة بعلاقات أمنية وعسكرية وثيقة مع إسرائيل، منحت خلالها حكومة أذربيجان تسهيلات لإسرائيل لإقامة قواعد عسكرية على الأراضي الأذربيجانية، بالإضافة إلى أنّ سجل عمليات الاغتيال والتصفية التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات إيرانية ومن الحرس الثوري الإيراني داخل إيران وخارجها، تجعل فرضية وقوف إسرائيل وراء العملية فرضية منطقية، وفي تقديرنا أنّ القول إنّ الساحة الإيرانية “مخترقة” أمنيّاً من قبل إسرائيل عبر مصادر فنية وبشرية، أصبحت حقيقة تتجاوز مجرد الفرضيات والتحليل المستند لأدلة ومؤشرات.
داخليّاً، كان واضحاً ارتباك القيادة الإيرانية منذ بدء الإعلان عن حادثة سقوط الطائرة عبر تصدير روايات عديدة من مصادر رسمية أو شبه رسمية، اتسمت بالتضارب والتناقض، وكان واضحاً أنّها تريد كسب وقت لتهيئة الرأي العام الإيراني للتعامل مع الفاجعة وتصدير رواية جديدة متماسكة، ربما بدأت بتقرير الجيش الإيراني، غير أنّ الرواية الإيرانية مهما كان جوهرها ومستوى القناعة بمصداقيتها، إلا أنّه لا يمكن استبعاد تاريخ من التصفيات للرؤساء الإيرانيين منذ الثورة الإسلامية، وقد تزداد الصراعات داخل مؤسسات النظام الإيراني في غالبية المستويات القيادية” ما بين الجيش والحرس الثوري، وداخل البرلمان، وبين رئاسة الجمهورية ومكتب المرشد الأعلى، وما بين استخبارات الحرس الثوري والأجهزة الأمنية الأخرى وداخل هذه الأجهزة”، ناهيك عن خلافات عميقة ومعلنة بين تيّاري المتشددين والإصلاحيين، غير أنّ أبرز تلك الصراعات هو الصراع على خلافة المرشد الأعلى للثورة (علي خامنئي)، وأنّ رئيسي أحد أبرز المرشحين إلى جانب (مجتبى) بن علي خامنئي، الذي يشار إليه بأنّه الحاكم الفعلي لإيران، وأنّه يقف خلف إقصاءات تتم لمنافسيه بالاغتيال أو السجن أو الإبعاد، لفتح الطريق أمامه ليكون خليفة والده بمنصب المرشد الأعلى.
ورغم تعدد سيناريوهات كيفية تجاوز القيادة الإيرانية لأزمة فقدان الرئيس الإيراني، إلا أنّ المرجح أن تذهب القيادة الإيرانية باتجاهين؛ وهما:
الأوّل: إغلاق ملف الجدالات حول الحادثة وملابساتها عبر تقارير ستصدر لاحقاً لإغلاق ملف الأزمة؛ تتضمن تثبيت رواية الحادث العرَضي المرتبط بالظروف الجوية، لأنّ القيادة الإيرانية التي تمتلك قائمة من الطائرات المسيّرة وبرامج نووية وأخرى صاروخية وفضائية، تعيش حالة انكشاف تضرب مصداقية كل هذه البرامج، ولأنّ توجيه اتهامات لإسرائيل أو أمريكا بالوقوف وراء العملية سيرتب على إيران الردّ على العملية، وهو ما لا تريده إيران في هذه المرحلة.
الثاني: التفرغ للانتخابات الرئاسية القادمة مع ضغط الوقت، فمكتب المرشد الأعلى سيتفرغ وبصورة كاملة لهذه الانتخابات، وباتجاهات تضمن استمرار سيطرته على مؤسسة رئاسة الجمهورية بشخصية موالية للمرشد، ولكن دون أن تخطف المشهد كما فعل رئيسي، فطبيعة النظام الإيراني “تحت إبط المرشد” لا تحتمل شخصيات على غرار رئيسي وقاسم سليماني، ويشار هنا إلى خبرات متراكمة لدى المرشد ومكتبه وأجهزته بكيفية إدارة الانتخابات وفرز النتائج قبل إجراء الانتخابات